إنَّ تقوى الله جماع الخيرات، وحصون البركات، أكثر خصال المدح ذكرًا في كتاب الله.
ما من خير عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن إلا والتقوى موصلة إليه ووسيلة له ودليل عليه، وما من شر عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن، إلا والتقوى حرز منه حصين، ودرع منه مكين.
هي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ} [ النساء:131].
هي دعوة الأنبياء، وشعار الأولياء، فكل نبي يقول لقومه: {أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء:106]، وأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون.
والتقوى في أصلها أن يجعل العبد بينه وبين ما يخاف ويحذر وقاية، وربنا-تبارك وتعالى-هو أهلٌ التقوى، هو الأهل وحده أن يُخْشَى ويُعَظَّم ويُجَل ويُكْرَم. التقوى كما يقول علي-رضي الله عنه-: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
والتقي من عباد الله ذو ضمير مرهف، وخشية مستمرة، وحذر دائم، يتوقى أشواك الطريق، ويحذر سراديب الحياة، وجِلٌ من تجاذب كلاليب الرغائب والشهوات، ونوازع المطامع والمطامح.
وتبلغ التقوى تمامها، كما يقول أبو الدرداء –رضي الله عنه – : حين يتقي العبد ربه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرامًا، ليكون حجابًا بينه وبين الحرام، فإن الله بيَّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة:7-8].
وهداية القرآن لا تكون لغير ذوي النفوس التقية والقلوب الزكية، تتوقى الضلالة، وتتجنب سبل الغواية.
بالتقوى يكون الفرقان بين الحق والباطل، وبها العرفان الذي تنجلي به الأمور، والنور الذي تنشرح به الصدور:{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد:28].
القبول في أهل التقوى محصور: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وصفهم علي-رضي الله عنه-فقال: "هم أهل الفضل؛ منطقهم صواب، وملبسهم في اقتصاد، ومشيهم في تواضع، غضوا أبصارهم عن الحرام، ووقفوا أسماعهم على ما يستفاد، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء، عَظُمَ الخالق في أنفسهم، فصَغُرَ ما دونه في أعينهم، قلوبهم محزونة. شرورهم مأمونة، مطالبهم في هذه الدنيا خفيفة وأنفسهم عما فيها عفيفة.
صبروا أيامًا قصيرة فأعقبهم راحة طويلة، يصفون في الليل أقدامهم، يرتلون قرآنهم، جاثون على الركب، يطلبون النجاة من العطب، لا يرضون من الأعمال الصالحة بالقليل، ولا يستكثرون منها الكثير.
من ربهم وجلون، ومن أعمالهم مشفقون، يتجملون في الفاقة، ويصبرون في الشدة، ويشكرون على النعمة، قريب أملهم، قليل زللهم، الخير منهم مأمول، والشر منهم مأمون.
ولا يتجلى الصدق في التقوى حين يتجلى إلا عندما يستوي عند العبد تقاه في سره ونجواه، وقد قال المصطفى-صلى الله عليه وسلم-لمعاذ: (اتق الله حيثما كنت)، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
وعجبًا عباد الله: كيف يتقي العبد ذنبه مع خلق الله، ويظهره في خلوته بمولاه؟!.
وحين يصيب الإنسان بعض القصور، ويغلبه طغيان شهوة؛ تعمل التقوى عملها، فسرعان ما يرجع التقي إلى ربه، ويأوي إلى رحمته، ويهرب من شيطانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف:201]، {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
إن المقصر حين يتوب لا يكون في مؤخرة القافلة ولا في ذيل القائمة، إنه أهل لبلوغ أعلى المقامات حين تصدق توبته وتصح أوبته: {أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ} [آل عمران:136].
وبقي ركن في التقوى ركين نشير إليه، إنه الحفاظ على حقوق الناس بجانب حقوق الله، ولقد قال ابن رجب-رحمه الله-: "وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، حتى قال: والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا لا يقوى عليه إلا الكمّل من الأنبياء والأتقياء، وقد قال بعض الحكماء: من عزيز الأشياء: حسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة".
فتزودوا من التقوى رحمكم الله؛ فهي خير زاد، وتواصوا بها؛ فهي خير وصية، جاء يزيد بن سلمة إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله إني قد سمعت منك حديثا كثيرًا أخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعًا قال: (اتق الله فيما تعلم).